ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (كل من آثر الدنيا على الآخرة فلا بد أن يقول على الله ورسوله بغير علم) أي: كل عالم أو مفت آثر الدنيا على الآخرة كلياً أو جزئياً لا بد أن يقول على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم؛ لأنه يقول: إن أهواء الناس وأحوالهم ومطالبهم وشهواتهم -وهذا معنى كلامه- لا توافق الحق والشرع والدين كما نزل من عند الله. وهذا معلوم، إذ إن ما أنزله الله ضد الشهوات وضد الشبهات وضد الظلم وضد التسلط وضد الطغيان، كثير من الأنفس عندها هذه النزعات وهذه الرغبات تريد أن تحققها، وما أنزل الله يحول بينها وبين ذلك، فإذا جاء العالم أو المفتي وهو من أهل الدنيا -الدنيا عند أصحاب الرغبات وأصحاب الشهوات من الملوك أو الكبراء أو التجار- فلا بد أن يقول على الله بغير علم؛ لأن عنده الرغبة والأمنية والشهوة والعياذ بالله، وذلك على الأقل من باب التحريف وترك بعض ما أنزل الله، وإظهار البعض الآخر، فلا يظهر الدين كله سواء، فإذا جاء إليه ووجده -مثلاً- ينفق أو يتصدق حدثه أو أخبره بما وعده الله تعالى للمنفقين والمتصدقين والمزكين، ويسكت عن الآيات أو الأحاديث التي فيها حرمة أكل الربا؛ لأنه يعلم أن هذا في الربا، لكن يقول: لا، فنأتي له بهذه التي توافقه؛ لأنا لو قلنا: الربا، وقعنا في مشكلة، هكذا والعياذ بالله؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في حق مثل هؤلاء: (( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ))[الأعراف:176] أي: بهذا الدين، بهذه الآيات، ثم قال تعالى: (( وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ))[الأعراف:176]، أي: لو أن الله سبحانه وتعالى شاء له العصمة من هذه الذنوب، والهداية والتوفيق، ومن أن يطلب الدنيا بهذا العلم، لرفعه الله تعالى بها فصار أعز وأفضل وأشرف من أهل الدنيا، وما أهل الدنيا وما ملكهم وما ترفهم بالنسبة لمن شرفه الله تبارك وتعالى، وأعطاه هذا العلم، وهذا النور، وهذا الدين؟ لا شيء، من الذين استشهد بهم الله سبحانه وتعالى على أعظم قضية، وقرنهم مع ذاته الشريفة سبحانه وتعالى؟ العلماء، فقال تعالى: (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ))[آل عمران:18]، فالشهداء أفضل أهل الأرض، وأشرفهم هم الذين استشهد بهم الله على أفضل وأعظم وأشرف قضية وهي ألوهيته تبارك وتعالى، فإذا عمل العالم للآخرة وترك الدنيا رفعه الله بها، فصار أعلى من أهل الدنيا، ولذلك الإمام أحمد رحمه الله في أثناء امتحانه بخلق القرآن لو طلب منهم ما شاء من الدنيا لأعطوه حتى يقول: القرآن مخلوق، وتنتهي القضية ويرتاح من المشكلة، لكنه أبى إلا أن يقول الحق، فلما صبر أظهره الله سبحانه وتعالى عليهم، وجاء المتوكل فرفع المحنة وأعاد السنة، وكان حال الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يأتيه بعض التجار من بغداد بعشرة آلاف دينار أو بمائة ألف دينار ويردها ويتصدق بها ويقول: أما إنا لو طلبناها لم تأتنا، لكن لما لم يطلبها تأتيه وهي راغمة، والذي أعطاه يتمنى أن يقبلها ويفرح أنه أعطاه، ويفرح أنه قبلها، فبعد أن كان المعتصم يؤذيه ويعذبه صار المتوكل يتمنى أن يأكل عنده فقط، فكتب إلى الإمام أحمد من بغداد أن يأتي إليه، فشق ذلك عليه، لكن قال: هذا ولي أمر المسلمين، وأعز الله تعالى به الدين، وأظهر به السنة، وقمع به البدعة، فما وجد بداً إلا أن يستجيب، فذهب إلى سامراء وهنالك طلب منه أن يعفيه أن يأكل معه، أي: أنه لا يريد أن يجلس في مجلسه، والمتوكل يهمه فقط أن الناس يعلمون أنه يعظم الإمام أحمد ، وأنه دعا الإمام أحمد ، وأن الإمام أحمد جاء وأكل عنده، لكن الإمام أحمد لما جاء إليه أبى، فكان أبناؤه ومن معه يأتون الإمام أحمد بالطعام فلا يأكل، حتى ذكروا أنه بقي أياماً مواصلاً الصيام، ثم كان يفطر على ماء حتى لا يأكل عندهم، ثم عاد ففرح بعودته، وكأنه خرج من السجن، أو كان أشد فرحاً من خروجه من السجن: (( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ))[الأعراف:176]؛ لأنه أراد الآخرة، وتعلم العلم للآخرة، ويفتي ويقول الحق لا يريد إلا الله والدار الآخرة، ولهذا رفعه الله تبارك وتعالى بها، فأصبح أعز وأشرف وأفضل من أهل الدنيا قاطبة، تذهب أموالهم وتذهب مناصبهم وتذهب دنياهم وذكره وعلمه باق، والثناء عليه عند الله عز وجل في الملأ الأعلى وعند الخلق لا يزال إلى قيام الساعة.
وبالتالي فأين هذا من هذا؟
أما الآخرون الذين أرادوا بعلمهم وبفتاويهم وبكتبهم وبتآليفهم الدنيا أو الحظوة عند السلاطين أو الملوك أو أهل المال؛ فإنهم قلما يبارك لهم فيها، حتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: إن بعض أهل الكلام ألفوا الكتب للملوك، فتجد أن اسم الكتاب على اسم الخليفة! فهذا من تنزيل مقدار العلم أن يكتب من أجل الدنيا، أو أن ينسب إلى أهل الدنيا، ولو كانوا أهل عقيدة حقة وصحيحة وصادقة ما نسبوا تلك الكتب ولا ألفوها لهؤلاء؛ لأن العلم أعز وأشرف من المال أو المنصب أو من أي شيء، لكن هذه سنة الله تعالى في هذه الأمة، أنها لابد أن يكون فيها مثل أهل الكتاب، أمة قائمة بالقسط، وكذلك يكون فيهم مثل هؤلاء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً والعياذ بالله، وإن كانوا والحمد لله في هذه الأمة أقل من أهل الكتاب، ثم هم مفضوحون في هذه الأمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى تأذن وتكفل أن لا تزال طائفة من هذه الأمة منصورة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهذه الفئة الطائفة المنصورة الظاهرة بالحجة والبيان وأيضاً بالسيف والسنان، يفضح الله تعالى بها أولئك الذين يريدون الدنيا، وينافقون ويقولون على الله تبارك وتعالى غير الحق، ويفترون عليه، وينسبون إلى دينه وشرعه ما لم ينزله وما لم يأذن به، وهذا كثير في الناس إلا ما رحم الله.